فصل: تفسير الآيات (109- 111):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (101- 104):

{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103) قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104)}
ولما ختم بالتنزيه عما قالوا من الشريك والولد، استدل على ذلك التنزيه بأن الكل خلقه، محيط بهم علمه، ولن يكون المصنوع كالصانع، فقال: {بديع السماوات والأرض} أي مبدعهما، وله صفة الإبداع، أي القدرة على الاختراع ثابتة، ومن كان كذلك فهو غني عن التوليد، فلذا حسن التعجب في قوله: {أنَّى} أي كيف ومن أيّ وجه {يكون له ولد} وزاد في التعجيب بقوله: {ولم} أي الحال أنه لم {يكن له صاحبة و} الحال أنه {خلق كل شيء} أي مقدور ممكن من كل صاحبة تفرض، وكل ولد يتوهم، وكل شريك يدعي فكيف يكون المبدع محتاجاً إلى شيء من ذلك على وجه التوليد أو غيره.
ولما كانت القدرة لا تتم إلا بشمول العلم قال: {وهو} ولم يضمر تنبيهاً على أن عموم العلم لا تخصيص فيه كالخلق فقال: {بكل شيء عليم} أي فهو على كل شيء قدير، لأن شمول العلم يلزمه تمام القدرة- كما يأتي برهانه إن شاء الله في طه، ومن كان له ولد لم يكن محيط العلم ولا القدرة، بل يكون محتاجاً إلى التوليد.
ولما ثبت أنه لا كفوء له بما ذكر من صفاته وأفعاله، وبين فساد أقوال المشركين، وفصل مذاهبهم على أحسن الوجوه، وبين فساد كل واحد منها بأمتن الحجج، فثبت بذلك ما افتتح السورة به من إحاطته بصفات الكمال، قال مشيراً إلى ذلك كله بمبتدأ خبر بعده أخبار: {ذلكم} أي العالي الأوصاف جداً الذي لا حاجة له إلى شيء، وكل شيء محتاج إليه {الله} أي الذي له كل كمال {ربكم} أي الموجد لكم والمحسن بجميع أنواع الإحسان، فهي فذلكة ما قبلها وثمرته، لأن من اتصف بذلك كان هو رب الكل وحده والخالق للجميع واستحق العبادة وحده فلذا أتبع ذلك قوله: {لا إله إلا هو} لأن المقام للتوحيد اللازم للإحاطة بأوصاف الكمال التي هي معنى الحمد المفتتح به السورة، وساق قوله: {خالق كل شيء} الذي هو مطلع ما بعده مساق التعليل دليلاً على ذلك، فلما أقام الدليل سبب عنه الأمر بالعبادة فقال: {فاعبدوه} أي وحده، لأن من أشرك به لم يعبده، لأنه الغنى المطلق، ومن كان له الغنى المطلق لا يحسن أن يقبل مشركاً، وختم الآية بقوله: {وهو} ولما كان المقام لنفي احتياجه إلى شيء، قدم قوله: {على كل شيء وكيل} إشارة إلى أن الولد أو الشريك إنما يحتاجه العاجز المفتقر، وأما هو فهو القادر، ومن سواه عاجز، وهو الغني ومن سواه فقير، فكيف يحتاج القدير الغني إلى العاجز الفقير، هذا ما لا يكون، ولا ينبغي أن يتخيله الظنون، وفيه إشارة إلى أن العابد ينبغي أن يتفرغ لعبادته ويقطع أموره عن غير وكالته، فإنه يكفيه بفضله عمن سواه.
ولما كان كل والد وكل شريك لابد أن يكون مجانساً لولده وشريكه بوجه، وصل بذلك من وصفه ما اقتضاه المقام من تنزيهه، فقال: {لا تدركه} أي حق الإدراك بالإحاطة {الأبصار} أي أن من جعلتموه ولده أو شريكه هو مدرك بأبصاركم كعيسى وعزير عليهما السلام والأوثان والنجوم والظلمة والنور، وأما الملائكة والجن فإن كان حكمكم عليهم بذلك عن مشاهدة فهم كمن تقدمهم، وإن كان عن إخبار فهو عن الأنبياء ليس غير، وكل منهم مخبر بأنهم عباد الله كغيرهم، وأنه منزه عن شريك وولد، وهذه كتبهم وصحاح أخبارهم شاهدة بذلك، ووراء ذلك كله أنهم بحيث يدركون بالأبصار في الجملة، ليس إدراكهم مستحيلاً، وأما هذا الإله العزيز فهو غير مدرك لكم بالبصر كما يدرك غيره إدراكاً تاماً، فيتأمله ناظره فيزنه وينقده بالخبرة بما فيه من رضى وغضب وغيرهما، بما أبدته الفراسة وأوضحه التوسم، لأنه سبحانه متعال عن أن يحاط به، هذا على أنه من عموم السلب، وإن كان من سلب العموم فالمعنى أنه عزيز لا يراه كل أحد، بل يراه الخواص إذا أراد فكشف لهم الحجاب وأوجد لهم الأسباب {وهو} مع ذلك يدرككم، بل و{يدرك} ما لا تدركونه من أنفسكم {الأبصار} وهي القوى المودعة في عصبة العين لتدرك بها المبصرات {وهو اللطيف} عن أن يحيط به الأبصار، لأنه يمنع الأسباب عن أن ينشأ عنها مسبباتها، ويوجد أدق الأسباب وأغربها، فلا يستغرب عليه إدراك المعاني لأنه الذي أوجدها {ألا يعلم من خلق} [الملك: 14] وأصل اللطف دقة النظر في الأشياء {الخبير} أي المحيط بالأبصار فإحاطته بأصحابها أجدر، ويتحقق معنى الاسمين لتحقق المعنى؛ قال الحرالي في شرح الأسماء: اللطف إخفاء التوسل إلى الشيء بإظهار ما يضاده، ولا يتم إلا بخبرة، ولذلك نظم باسمه {الخبير} لأنه أخفى حكمته في ظاهر يضادها، فاللطف مخبرة في حكمة، وباسمه تعالى اللطيف أقام أمر حكمته ما بين الدنيا والآخرة، وبذلك أقام أمر أهل ولايته في الدنيا لما جمع لهم من أمره فيها، فيبدو عزهم من وراء ذل، ويتراءى ذلهم ومن دونه عز، فيسبق عزهم إلى القلوب مع تذللهم في الحواس، ويؤول محسوسهم إلى عز في عقبى الدنيا، ومبادرة الآخرة مع تأنس القلوب بهم، {إن ربي لطيف لما يشاء} [يوسف: 100] لما أراد أن يملكه مصر وجعل وسيلة ذلك استبعاده بها، وبحصول معناه بتمام الخبرة والحكمة- وتلك إبداء الشيء في ضده- يتضح اختصاصه بالحق، فهو الذي أطعم من جوع وآمن من خوف، الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً، فهو تعالى اللطيف الذي لا لطيف إلا هو، ثم قال: الخبرة إدراك خبايا الأشياء وخفاياها بحيث لا يبدو منه خبيثة أمر إلا كان إدراك الخبير سابقاً لبدوها، وذلك لا يتم إلا لمبديها الذي هو يخرج خبأها، وهو الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض، ومخبرة الخلق لابد فيها من إظهار باد ينبئ عن الخبء بمقتضى التجرية، وإلاّ لم يصح لهم الخبرة، كما قيل: مخبرة المرء فيما يبدو من نطقه وما يظهره اليوم والليلة من عمله، والخبير الحق خبير بالشيء دون باد يرى الظاهر خبيثة أمره، فهو بالحقيقة الذي لا خبير إلاّ هو- انتهى.
ولما أكثر لهم من إقامة الأدلة على وحدانيته، وختمها بهذا الدليل المحسوس الذي معناه أن كل شريك وكل ابن يدرك شريكه وأباه، وهو متناه عن أن يدركه، أي يحيط به أحد، ناسب أن يعظهم ويمدح الأدلة حثاً على تدبرها، وجعل ذلك على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم إشارة إلى أنه- لنور قلبه وكمال عقله وصفاء لبه وغزارة علمه وشريف أخلاقه واستقامة غرائزه وبُعد مدى همته عن أن ينسب إلى جور أو يرمى بعناد- حقيق بأن يقول بعد إقامتها من غير تلعثم تقريراً لأمر دعوته بعد تقرير المطالب العالية الإلهية: {قد جاءكم}.
ولما كانت الآيات- لقوتها وجلالتها التي أشار إليها تذكير الفعل- توجب المعرفة فتكون سبباً لانكشاف الحقائق الذي هو كالنور في جلاء المحسوسات، قال: {بصائر} أي أنوار هي لقلوبكم بمنزلة الضياء المحسوس لعيونكم {من ربكم} أي المحسن إليكم بكل إحسان، فلا إحسان أصلاً لغيره عندكم، فاصعدوا عن النظر بالأبصار إلى الاعتبار بالبصائر، ولا تهبطوا في حضيض التقليد إلى أن تصلوا إلى حد لا تفهمون معه إلا ما يحس بالأبصار بل ترقوا في أوج المعرفة إلى سماوات الاجتهاد وجرّدوا لقطاع الطريق صوارم البصائر، فإنكم إن رضيتم بالدون لم تضروا إلا أنفسكم، وإن نافستم في المعالي فإياها نفعتم. ولذلك سبب عن هذا النور الباهر والسر الظاهر قوله: {فمن أبصر} أي عمل بالأدلة {فلنفسه} أي خاصة إبصاره لأنه خلصها من الضلال المؤدي إلى الهلاك {ومن عمي} أي لم يهتد بالأدلة {فعليها} أي خاصة عماه لأنه يضل فيعطب.
ولما كان المعنى أنه ليس لي ولا لغيري من إبصاره شيء ينقصه شيئاً، ولا علي ولا غيري شيء من عماه، كان التقدير: فإنما أنا بشير ونذير، عطف عليه قوله: {وما أنا} وأشار إلى أن حق الآدمي التواضع وإسلام الجبروت والقهر لله بأداة الاستعلاء فقال: {عليكم} وأغرق في النفي بقوله: {بحفيظ} أي أقودكم قسراً إلى ما ينجيكم، وأمنعكم قهراً مما يرديكم.

.تفسير الآيات (105- 108):

{وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105) اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107) وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108)}
ولما كان التقدير التفاتاً إلى مقام العظمة إعلاماً بأن القضاء كله بيده لئلا يظن نقص في نفوذ الكلمة: فانظروا ما صرفنا لكم في هذه السورة من الآيات وأوضحنا بها من شريف الدلالات، لقد أتينا فيها بعجائب التصاريف وكشفنا عن غرائب التعاريف، عطف عليه قوله: {وكذلك} أي ومثل هذا التصريف العظيم {نصرف} أي ننقل جميع {الآيات} من حال إلى حال في المعاني المتنوعة سالكين من وجوه البراهين ما يفوت القوى ويعجز القُدَر لتحير ألباب المارقين وتنطلس أفكار المانعين، علماً منهم بأنهم عجزة عن الإتيان بما يدانيها فتلزمهم الحجة {وليقولوا} اعتداء لا عن ظهور عجزهم {درست} أي غيرك من أهل الكتاب أو غيرهم في هذا حتى انتظم لك هذا الانتظام وتم لك هذا التمام، فيأتوا ببهتان بيّن عواره ظاهرة أسراره، مهتوكة أستاره، فيكونوا كأنهم قالوا: إنك أتيت به عن علم ونحن جاهلون لا نعلم شيئاً، فيعلم كل موفق أنهم ما رضوه لأنفسهم مع ادعاء الصدق والمنافسة في البعد عن أوصاف الكذب إلا لفرط الحيرة وتناهي الدهشة وإعواز القادح، والحاصل أنه أتى به على هذا المنهاج الغريب والأسلوب العجيب ليعمى ناس عن بينة ويبصر آخرون، وهم المرادون بقوله: {ولنبينه} أي القرآن لأنه المراد بالآيات المسموعة {لقوم يعلمون} أي أن المراد من الإبلاغ في البيان أن يزداد الجهلة به جهلاً، ويهتدي من كان للعلم أهلاً، فلا يقولون: {درست} بل يقولون: إنه من عند الله، فالآية من الاحتباك: إثبات ادعاء المدارسة أولاً يدل على نفيها ثانياً، وإثبات العلم ثانياً يدل على عدمه أولاً، وهي من معنى {يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً} [البقرة: 26].
ولما انكشف بهذا في أثناء الأدلة وتضاعيف البراهين أن القرآن كنز لا يلقى مثله كنز، وعز لا يدانيه عز، وأنه في الذروة التي تضاءلت دونها سوابح الأفكار، وكلّت عن التماعها نوافذ الأبصار، وختم بأن المراد بالبيان العلماء، ناسب له أن ينبه على ذلك لئلا يفتر عنه طعنهم بقولهم {درست} ونحوه، فقال مخصصاً له صلى الله عليه وسلم بالخطاب إعلاماً بأنه العالم على الحقيقة: {اتبع} أي أنت ومن تبعك {وما أوحي إليك} أي فالزم العمل به؛ ثم أكد مدحه بقوله: {من ربك} أي المحسن إليك بهذا البيان؛ ثم علل ذلك بقوله: {لا إله إلا هو} أي فلا يستحق غيره أن يتبع له أمر، ولا يلتفت إليه في نفع ولا ضر {وأعرض عن المشركين} أي بغير التبليغ، فإنه ما عليك غيره، ومزيد حرصك على إيمانهم لا يزيد من أريدت شقوته إلا تمادياً في إشراكه وارتباكاً في قيود أشراكه.
ولما كان الحبيب أسر شيء بما يزيده حبيبه، قال مسلياً له صلى الله عليه وسلم عن استهزائهم به وردهم لقوله، عاطفاً على ما تقديره: فلو شاء الله ما خالفوك ولا تكلموا فيك ببنت شفة: {ولو شاء الله ما أشركوا} أي ما وقع منهم إشراك أصلاً، فقد أراد لك من الوقوع فيك ما أراده لنفسه، فليكن لك في ذلك مسلاة.
ولما كان التقدير: فإنه سبحانه حفيظ عليهم، عطف عليه قوله: {وما جعلناك} أي بعظمتنا، وأشار إلى أن العلو ليس بغير الله سبحانه فقال: {عليهم حفيظاً} أي تحفظ أعمالهم لئلا يكون منها ما لا يرضينا فتردهم عنه قسراً {وما أنت} وقدم ما هو أعم من نفي التحقق بالعلو المحيط القاهر الذي هو خاص بالإله فقال: {عليهم بوكيل} أي فتأخذ الحق منهم قهراً، وتعاملهم بما يستحقونه خيراً أو شراً، إنما أنت مبلغ عنا، ثم الأمر في هدايتهم وإضلالهم إلينا.
ولما طال التنفير عما اتخذ من دونه من الأنداد والبنات، لأنها أقل من ذلك وأحقر، كان ذلك ربما كان داعية إلى سبها، فنهى عنه لمفسدة يجرها السب كبيرة جداً، فقال عاطفاً على قوله: {وأعرض عن المشركين} غير مواجه له وحده صلى الله عليه وسلم إكراماً له: {ولا تسبوا} ولما كانت الأصنام لا تعقل، وكان المشركون يزعمون بها العقل والعلم، ويسندون إليها الأفعال، أجري الكلام على زعمهم لأنه في الكف عنها فقال: {الذين يدعون} أي دعاء عبادة من الأصنام أو غيرهم بذكر ما فيهم من النقص، ثم بين دفعاً لتوهم إكرامهم أنهم في سفول بقوله: {من دون الله} أي الملك الأعلى الذي لا كفوء له عدلاً، بعلم منكم بما لهم من المعايب، بل أعرضوا عن غير دعائهم إلى الله حتى عن سب آلهتهم بما تستحقه، فإنا زينا لهم أعمالهم فغرقوا مع غزارة عقولهم فيما لا يرتضيه عاقل، وكذبوا بجميع الآيات الموجبة للإيمان، فربما جرهم سبُّكم لها- لما عندهم من حمية الجاهلية- إلى ما لا يليق {فيسبوا} أي فيتسبب عن ذلك أن يسبوا {الله} أي الذي تدعونه وله الإحاطة بصفات الكمال، وأظهر تصريحاً بالمقصود وإعظاماً لهذا وتهويلاً له وتنفيراً منه.
ولما كان الخنو يوجب الإسراع، أشار إليه سبحانه بقوله: {عدواً} أي جرياً إلى السب؛ ولما كان العدو قد يكون مع علم، قال مبيناً لأنه يراد به مع الإسراع أنه مجاوز للحد: {بغير علم} لأنا زينا لهم عملهم، فالطاعة إذا استلزمت وجود منكر عظيم احترز منه ولو أدى الحال إلى تركها وقتاً ما، لتحصل القوة على دفع ذلك المنكر، فحكم الآية باق وليس بمنسوخ.
ولما كان ذلك شديداً على النفس ضائقاً به الصدر، اقتضى الحال أن يقال: هل هذا التزيين مختص بهؤلاء المجرمين أم كان لغيرهم من الأمم مثله؟ فقيل: {كذلك} أي بل كان لغيرهم، فإنا مثل ذلك التزيين الذي زينا لهؤلاء {زينا لكل أمة} أي طائفة عظيمة مقصودة {عملهم} أي القبيح الذي أقدموا عليه بغير علم بما خلقه في قلوبهم من المحبة له، رداً منا لهم بعد العقل الرصين أسفل سافلين، حتى رأوا حسناً ما ليس بالحسن لتبين قدرتنا؛ فكان في ذلك أعظم تسلية وتأسية وتعزية، والآية من الاحتباك: إثبات {بغير علم} أولا دال على حذفه ثانياً، وإثبات التزيين ثانياً دليل على حذفه أولاً.
ولما كان سبحانه طويل الأناة عظيم الحلم، وكان الإمهال ربما كان من جهل بعمل العاصي، نفى ذلك بقوله: {ثم} أي بعد طول الإمهال {إلى ربهم} أي المحسن إليهم بالحلم عنهم وهم يتقوون بنعمه على معاصيه، لا إلى غيره {مرجعهم} أي بالحشر الأعظم {فينبئهم} أي يخبرهم إخباراً عظيماً بليغاً {بما} أي بجميع ما {كانوا يعملون} أي على سبيل التجدد والاستمرار بما في جبلاتهم من الداعية إليه وإن ادعوا أنهم عاملون على مقتضى العلم.

.تفسير الآيات (109- 111):

{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آَيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآَيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110) وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)}
ولما نصب سبحانه هذه الدلالات في هذه الآيات البينات حتى ختمها بما علم منهم من الإسراع إلى سب من أحسن إليهم بأن أوجدهم وأوجد لهم كل ما في الكون، وما من نعمة عليهم إلا وهي منه، عجب منهم في الوعد بالإيمان على وجه التأكيد بما يأتيهم من مقترحاتهم إعلاماً بأن ذلك مما زين لهم من عملهم، وهي أمنية كاذبة ويمين حانثة فقال عاطفاً على {وجعلوا لله شركاء الجن} [الأنعام: 100] {وأقسموا} أي المشركون {بالله} أي الذي لا أعظم منه {جهد أيمانهم} أي باذلين فيها جهدهم حتى كأنها هي جاهدة، ووطأ للقسم فقال: {لئن جاءتهم آية} أي من مقترحاتهم، وتلقى القسم بقوله: {ليؤمنن بها}.
ولما كانوا بهذا ظالمين من أجل أنهم طلبوا من الرسول ما ليس إليه بعد إتيانه من المعجزات بما أزال معاذيرهم، وأوجب عليهم الاتباع، نبه على ذلك بقوله مستأنفاً: {قل} أي رداً لتعنتهم {إنما الآيات} أي هذا الجنس {عند الله} أي الحائز لجميع صفات الكمال، وليس إليّ ولا إلى غيري شيء من هذا الجنس ليفيد الاقتراح شيئاً غير إغضابه.
ولما كان العبد لعجزه لا قدرة له على شيء أصلاً، فلا يصح له أن يحكم على آت أصلاً لا من أفعاله ولا من أفعال غيره، قال منكراً عليهم ملتفتاً إلى خطابهم إشارة إلى أنهم حقيقون بالمواجهة بالتبكيت: {وما} أي وأي شيء {يشعركم} أي أدنى شعور بما أقسمتم عليه من الإيمان عند مجيئها حتى يتوهموه أدنى توهم فضلاً عن الظن فكيف بالجزم ولاسيما على هذا الوجه! ثم علل الاستفهام بقوله مبيناً أنه لا فائدة في الإتيان بالآية المقترحة: {أنها} بالفتح في قراءة نافع وابن عامر وشعبة في رواية عنه وحفص وحمزة والكسائي، فكان كأنه قيل: أنكرت عليكم لأنها {إذا جاءت لا يؤمنون} بالخطاب في قراءة ابن عامر وحمزة، والالتفات إلى الغيبة في قراءة غيرهم للإعلام بأنهم بعيدون من الإيمان فهم أهل للإعراض عنهم لما استحقوا من الغضب، والتعليل عند من كسر {أنها} واضح.
ولما كان التقدير: فإنا نطبع على قلوبهم، ونزين لهم سوء أعمالهم، عطف عليه قوله: {ونقلب} أي بما لنا من العظمة {أفئدتهم} أي قلوبهم حتى لا يهتدوا بها {وأبصارهم} حتى لا ينفعهم الإبصار بها، فلا يعتبرون فلا يؤمنون {كما لم يؤمنوا به} أي بمثل ذلك {أو لمرة} أي عند إتيان الآيات التي قبل تلك {ونذرهم} أي نتركهم {في طغيانهم} أي تجاوزهم للحدود {يعمهون} أي يديمون التحير على أن الحال لما فيه من الدلالة لا يقتضي حيرة بوجه. ولما أخبر أنهم لا يؤمنون عند آية مقترحة عمم على وجه مفصل لإجمال ما قبله فقال: {ولو أننا} أي على عظمتنا البالغة بما أشار إليه جمع النونات {نزلنا} أي على وجه يليق بعظمتنا {إليهم الملائكة} أي كلهم فرأوهم عياناً {وكلمهم الموتى} أي كذلك {وحشرنا عليهم} أي بما لنا من العظمة {كل شيء قبلاً} جمع قبيل جمع قبيلة في قراءة من ضم القاف والباء كرغيف ورغف، أي جاءهم ذلك المحشور كله قبيلة قبيلة تترى ومواجهة {ما كانوا ليؤمنوا} أي على حال من الأحوال {إلا أن يشاء الله} أي إلا حال مشيئته لإيمانهم لأنه الملك الأعلى الذي لا أمر لأحد معه، فإذن لا عبرة إلا بمشيئته، فالآية دامغة لأهل القدر، ولا مدخل لآية ولا غيرها في ذلك، فلا يطمع أحد في إيمانهم بغير ذلك، ويقرب عندي- وإن بعُد المدى- أن يكون {وأقسموا} معطوفاً على قوله تعالى: {وقالوا لولا أنزل عليه آية من ربه} وهذا من المتعارف في كلام البلغاء أن يحكي الإنسان جملة من كلام خصمه، ثم يشرع في توهينها، ويخرج إلى أمور- يجرّها المقام- كثيرة الأنواع طويلة الذيول جداً، ثم يحكي جملة أخرى فيقول معجباً منه: وقال كذا وكذا، ثم يشرع فيما يتعلق بذلك من النقد والرد، ومما يؤيد ذلك توحيد ختمهما، فختم الأولى {ولكن أكثرهم لا يعلمون} [الأنعام: 37] وختم هذه {ولكن أكثرهم يجهلون} أي أهل جهل مطبوعون فيه، يقسمون على الإيمان عند مجيء آية مقترحة ولا يشعرون أن المانع لهم من الإيمان إنما هو المشيئة وإلا لآمنوا بما جاءهم من الآيات، فإنه كفاية في المبادرة إلى الإيمان، والآيات كلها متساوية الأقدام في الدلالة على صدق الداعي بخرق العادة والعجز عن الإتيان بمثلها.